كنا في المقالة الماضية قد شخصنا مشكلة كثرة الإنتقاد بين الدعاة، وعرضنا أبرز مظاهرها وأسبابها، واليوم نسهم في وضع بعض الحلول والمقترحات لتجاوزها، والرقي بفئات الدعاة نحو التخلص الكلي منها...
مما سبق نكون قد وضعنا الأيدي على مكمن الداء، ولهذا لابد أن نبحث عن الدواء، والذي بعون الله يكون فيه شفاء القلوب والنفوس وذهاب غيظها، وأول جرعات هذا الدواء:
=أولاً: الإخلاص.. الإخلاص لله سبحانه، وصدق النية في كل ما يتقرب به إلى الله، وفي كل ما يتعبد به، إنطلاقاً من قوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين...} [البينة:5]، وما ذلك إلا لأن الإخلاص هو السبيل الوحيد لتحقيق النجاح والسؤدد، ولهذا لما علم الله سبحانه تردد المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم إخلاصهم في الخروج إلى الجهاد، ثبطهم وأشغلهم بأموالهم وأنفسهم عن اللحاق بركب الجهاد، ونشر الإسلام، وما ذلك إلا لأن الدعوة إلى الله أمر خطير لا يوفق له، وفيه، ولا يسدد في طريقها إلا المخلصين، قال تعالى: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين} [التوبة:46]، فنخشى أن تكون الدعوة في عصرنا هذا أصابها ما أصابها بسبب أمر شاب إخلاص الدعاة.
=ثانياً: إتباع المنهج الصحيح الثابت عن السلف الصالح، والحرص على السنة النبوية المطهرة الصحيحة، مع ترك الأخذ بالضعيف الواهي ولو كان ذلك في فضائل الأعمال، لأن السنة صحيحة وافية وكافية، والحرص على السنة الصحيحة عامل قوي في نشر الحق والخير، ولهذا نجد أن الإمام الشافعي -مؤسس أكبر المذاهب اتساعاً وانتشاراً- يحرص على البيّنة الصحيحة والعمل بها، ولهذا قال للإمام أحمد بن حنبل: أنتم أعلم بالأخبار الصحيحة منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلموني حتى أذهب إليه كوفياً أو بصرياً أو شامياً.
فانظري رعاك الله إلى الشافعي رحمه الله لم تمنعه مكانته العلمية والإجتهادية من سؤال أحد طلابه -أحمد بن حنبل- وما ذلك إلا للحرص على الأخذ بالسنة الصحيحة -انظري: إختلاف الفقهاء للدهلوي ص48.
=ثالثاً: من عناصر نجاح الدعوة وبقاء جذوتها مشتعلة: ترك كل ما يفتح باب النقد، سواء كان ذلك بسبب:
* العمل بالحديث الواهي، والتوسع في إعمال الرأي.
* التصدر قبل التأهل بالعلم الشرعي الكافي، فلا تكفي القراءة الفردية من كتب العلم، وحسبنا في ذلك قولهم: من كان معلمه كتابه، كان خطؤه أكثر من صوابه.
* الخيلاء والتعالم -رسالة الشيخ بكر أبو زيد في التعالم.
* العمل بالمسائل المختلف فيها، كالتقشير، أو لبس البنطال الواسع، ونحوه.
=رابعاً: تقبل النقدالعلمي البناء، والنقد العلمي هو: التبيين على سبيل النصح لا على سبيل التعيير أو الإهانة، ومفاده إيصال الحق إلى من أخطأ، والتنبيه على الزلات، دون التعرض للأشخاص بالتوبيخ أو التجهيل، كل ذلك في حلم وسكينة وأناة وإخلاص -انظر: ظاهرة الشغب على العلماء، لعمر سليم ص62، 64.
ومن المعلوم أن النقد العلمي إن وافق آذانا صاغية فإنه يبني ويقوم الإعوجاج ويرفع من منزلة المستمع للنصيحة عند الله ثم عند الناس.
ومما يشهد لهذا ما ورد من أن محمداً بن الحسن -من أصحاب أبي حنيفة- كان يكثر من إعمال الرأي في الفقه فإنتقده الإمام الشافعي في ذلك، مع أن محمد بن الحسن الشيباني أحد شيوخ الشافعي، ومع هذا لما دخل عليه الإمام الشافعي، وهو يطعن على أهل المدينة في قضائهم بالشاهد الواحد مع اليمين، ويقول: هذا زيادة على كتاب الله، فقال الشافعي: أثبت عندك أنه لا تجوز الزيادة على كتاب الله بخبر الواحد؟ فقال: نعم، قال: فلم قلت إن الوصية لوارث لا تجوز، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث»، فانقطع كلام محمد بن الحسن، وكان لهذا النقد أثر كبير في فقه الإمام محمد ابن الحسن، فإنه إذا وجد في مذهبه قياساً ضعيفاً أو تخريجاً ليناً، يخالفه حديث صحيح مما عمل به الفقهاء، أو يخالفه عمل أكثر العلماء تركه إلى مذهب من مذاهب السلف، وما كان إقبال أتباعه على كتبه إلا لقبوله النقد وتصحيح المنهج -انظر: اختلاف الفقهاء، ص 40، 42.
=خامساً: التسامح وغض الطرف عن هفوات الآخرين، فكلنا ذوو أخطاء غير مبرئين من النقص، والإمام الذهبي أشار بهذا إلى أنه كلّ إمام إلا وله زلة، فإذا ترك لأجل زلته، ترك كثير من الأئمة، وهذا لا ينبغي أن يفعل -انظر: ظاهرة الشغب على العلماء ص 63.
والمنهج الصحيح أن لا يتبع أحد في زلته مهما عظم شأنه وبلغ أمره، فقد قال أبو قاسم الأصفهاني: أخطأ ابن خزيمة في حديث الصورة ولا يطعن عليه بذلك، بل لا يؤخذ عنه فحسب -انظر: المرجع السابق وتعليق المؤلف على هذا المثال ص63.
=سادساً: الإنصاف عند الإختلاف، فهذا أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله، وقد وقع بينه وبين أبي عبدالله بن منده، ما هو معلوم مشهور، إلا أنه كان منصفاً في وصفه فقال عنه لما ذكر عنده: كان جبلاً من الجبال، وقال الذهبي: فهذا يقوله أبو نعيم مع الوحشة الشديدة التي بينه وبين أبي عبدالله بن منده -لمرجع السابق ص60.
=سابعاً: إستنفار الجهود، لإصلاح هذا الخلل بعقد الندوات، وتجنيد مجموعة من المصلحات المستبصرات بمكامن هذا الخطر، لإبداء الرأي وإصلاح ذات البين.
وأخيراً.. اعلم أنه لن يصلح هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
هذا وبالله التوفيق.
الكاتب: خيرية بنت عمر موسى.
المصدر: موقع لهَـا أون لآين.